Wednesday, October 14, 2009

عن الدورة الأولى من مشروع بلازا

إنتهينا من الدورة الأولى من مشروع "بلازا" الذي إبتكره مركز الفنون – بمكتبة الإسكندرية – ليكون بمثابة حلقة جديدة في سلسلة صناعة الأفلام في الإسكندرية. كان الأخ فايز، مؤسس مركز الجزويت الثقافي ومسرح الجراج، قد قام بدور فارق في تاريخ الإسكندرية. وكلمة "تاريخي" ليس بها أدنى مبالغة هنا، فيمكننا أن نستشف نفس الرأي تقريبًا من المقالة التي أهدانا إياها الكاتب علاء خالد في صدر هذه المدونة. لقد كان الأخ فايز يستشرف المستقبل، فلم يكتف الرجل بتأسيس "أكاديمية" لتعليم "الحرفة"، بل أنه بعد تخرج الدفعة الأولى قام بالإعلان عن منحة لصناعة فيلم واحد روئي قصير، والتي إستفاد منها محمد رشاد وصنع "ماكسيم". فالأمر إذًا لا يقتصر على "نزوة" ما ألحت في وقت معين، بل أن الأمر كان هاجس عنده يدفعه دائمًا للإبتكار وبالتالي خلق فرص لمهتمين، قد يتحولوا إلى هواة ثم محترفين. ويكون من شأنهم أن يصنعوا – غير أعمالهم – جمهورًا لنوعية جديدة من الفنون. رحمه الله. إستمرت الرحلة في غياب الأخ فايز، وطرأ عليها تعديلات وتحويرات، وكان آخر الأحداث في هذا السياق العرض الأول لفيلم المخرج محسن عبد الغني "قرار إزالة" يوم الجمعة، ٩ أكتوبر ٢٠٠٩، بمسرح الجراج. “قرار إزالة" هو مشروع تخرج محسن عبدالغني كمخرج، لكنه كما أوضح المسئولون عن الورشة في تلك الأمسية أنه أيضًا مشروع تخرج مير تصويره كمدير تصوير (أحمد غنيمي) ومونتيرته كمونتيرة (بري معتز) إلخ. إذا فقد تغير الأمر. يمكننا أن نختلف أو نتفق حول هذا التغيير ونتكلم عن نوعية المدرسين الذين قاموا بصناعة الورشة الجديدة ونتناقش حول جدوى الحزم عندما يأت الأمر إلى كسر الموعد النهائي. ولكن لن نختلف أبدًا حول أن هناك تغيير قد حدث بالفعل، وبالتالي يمكننا رصد ما النتائج المتوقعة.

قام مركز الفنون بصناعة "بلازا"، وأتكلم هنا من موقعي كمشرف مباشر على المشروع. كاد المشروع أن يجهض في أكثر من مرحلة. لم يكن الأمر يسيرًا كما توقعت. تعرفت على الكثير من طبائع فناني "السينما المستقلة – وسط البلد – الإسكندرية – المسرح – القاهرة". هناك أيضًا الكثير من الصفات التي تأكد لي أنها أصيلة فينا ومن الصعب تغييرها. كان قد تم الإعلان عن المنحة في إطار أنه سوف يتم إنتاج خمسة أفلام بتمويل من المكتبة (أربعة آلاف جنيه كحد أقصى لكل فيلم). تطور الأمر إلى أن الناتج الآن هو إنتاج ثلاثة أفلام فقط (خمسة آلاف جنيه لكل فيلم). حدث هذا بعد أن إعتذر كل من آيتن أمين ومحمد ممدوح عن مشروعيهما لإرتباطهما بمشاريع أخرى يبدو أنها كانت أكثر أهمية بالنسبة لهما. لا يمكنني أن ألوم أي منهما عن الإعتذار ولكن يمكنني أن أسجل أن محمد ممدوح لم يكن واضحًا بالقدر الكافي حتى النهاية مما أدى إلى تعطيل المشروع إلى حد ما، وقد قام هذا بتضييع الفرصة على مخرجين آخرين كان من الممكن أن يستفيدوا. ربما هي ميزة يتسم بها الكثير منا، نقوم "بتعليق" جميع الفرص المتاحة حتى تستقر. يكون هذا ضامنًا ألا نخسر أي فرصة في نفس الوقت الذي يضمن لنا فيه أن نأخذ أفضل فرصة. قام محمد ممدوح لاحقًا بإخراج أحد مشاريعه عن طريقة مؤسسة أخرى – تابعة لوزارة الثقافة على ما أعتقد – ربما لأن المشروع الذي كان قد قدمه لهم له أهمية أكبر لديه. آيتن كانت واضحة من البداية، إعتذرت وإنتهى الأمر، وبالتالي تمكنت من توزيع قيمة إنتاج فيلمها على المخرجين الباقين. وهذا ما لم أتمكن من القيام به مع منحة محمد ممدوح.

وبهذا إستقر الوضع على مشاريع المخرجين الثلاثة المتبقين، والذين تصادف كونهم الثلاثة سكندريين. تفاوتت درجات المتاعب في مراحل التنفيذ المختلفة مع الجميع. كان للمكتبة نفسها نصيبها المحدود في التسبب في المشاكل، فلقد تأخر تسليم المنح لمستحقيها بعض الوقت مما أدى إلى تأخير التصوير عند بلال وشريف. ولكن يجب التوضيح هنا ما لمست من سلبيات كبيرة في قدرة تعامل المخرجين الثلاثة مع "مؤسسة" بالإضافة إلى عدم قدرة بعضهم على تقدير أمور بسيطة تتعلق بإخراج أعمالهم. أعتقد أن هذا شئ إيجابي من جهة، وهي جهة التذكير بإمكانيات كل شخص. فيجب علينا دائمًا، كمجموعة عاملين في هذا المجال في الإسكندرية، أن ندرك الإيجابيات والسلبيات عند كل فرد وبالتالي نستطيع توظيف كل شخص بالطريقة المناسبة.

بلازا في حد ذاته ليس أكثر من مشروع – محدود بمكان تصوير أفلامه وطبيعته الخاصة – يطمح أن يكون مساحة جديدة تخدم صانعي الأفلام الشباب في مصر وبشكل خاص في الإسكندرية. لا يطمح المشروع للتنافس مع آخرين، بل يطمح للتكامل مع المؤسسات الأخرى. وربما يكون حافزًا لآخرين لضخ بعض الفرص في هذا المجال الذي مازال في طور النمو.

تحدد ميعاد العرض لأفلام بلازا، ليلة الحادي عشر من نوفمبر ٢٠٠٩، أتمنى أن يعقب العروض مناقشات ثرية عن التجربة وعن الأفلام وعن مستقبل الإسكندرية



Sunday, September 13, 2009

حوار بين خالد النبوي ويوسف شاهين

النبوى: مالك يا أستاذ؟
شاهين: مش مبسوط
النبوى: ليه؟
شاهين: المناخ مش حلو
النبوى: المناخ.. الدنيا حر يعنى
شاهين: حر إيه يا قفل: المناخ يعنى الجو العام.. العيشة.. الناس
النبوى: الناس.. الناس كلهم يعنى
شاهين: أكيد الناس.. الناس أهم حاجة
النبوى: الناس فى الدنيا كلها يعنى والا هنا عندنا
شاهين: فى الدنيا كلها طبعا بس الأهم عندى الناس بتوعى
النبوى: بتوعك!
شاهين: أيوه يا قفل: وفيها إيه لما أقول الناس بتوعى ما أنا منهم وليهم ما فيهاش حاجة لما أقول بتوعى
النبوى: طيب حصل خير يا أستاذ
شاهين: لا محصلش.. ما تقعدش تمسكلى على الواحدة زيهم
النبوى: زى مين يا أستاذ؟
شاهين: الله ما انت لسه قايل.. أيوه يا سى... لسه قايل الناس بتوعى وبحبهم وكل اللى باعرفه جى منهم لكن زعلان منهم وهما السبب إن المناخ بايظ
النبوى: الناس
شاهين: أيوه يا نيلة .. أمال أنا اللى بوظته
النبوى: العفو يا أستاذ
شاهين: لأ ما تقول إن أنا اللى بوظته ما انت بجح وتقولها
النبوى: لأ ما أقدرش.. بس مين يعنى الناس دول اللى مبوظين المناخ الناس الفقرا والا الأغنيا مين بالظبط..؟!
شاهين: فقرا أغنيا ما يهمنيش.. أنا أكتر ناس زعلان منهم هما الشباب
النبوى: الشباب احنا يعنى
شاهين: أيوه
النبوى: زعلان مننا ليه يا أستاذ؟
شاهين: مش عارف بس أحنا ما كناش كده.
النبوى: فهمنى أكتر...
شاهين: هاكلمك بشكل خاص عن السينما.. عنكو.
النبوى: مالنا يا أستاذ احنا مزعلنيك فى إيه.
شاهين: فيكو حاجة بتخوفنى.
النبوى: إيه هى يا أستاذ.
شاهين: عندكو قلة تواضع بمليون جنيه: الواحد فيكو يعمل فيلم واحد يفتكر نفسه هد الدنيا.. وواحد تانى يقولى استكفيت أنا مش عايز أجاهد علشان أعمل فيلم أنا هاعمل اللى يقولوا لى عليه وخلاص
النبوى: يعنى يا أستاذ قصدك إنه ما فيش طموح
شاهين: أخيرا فهمتها يا قفل
النبوى: ما هو المناخ وحش يا أستاذ هانعمل إيه؟
شاهين: صلحوه يا نيلة: لما كل واحد فيكو هايستكفى بفيلم واحد كويس وواحد تانى يفتكر إنه هد الدنيا علشان عمل فيلم تبقى مصيبة
النبوى: أيوه يعنى...
شاهين: بلا يعنى بلا زفت فهمتوا فهمتوا مافهمتوش اتنيلوا على عنيكو بقى وتبقى قسمتكوا كده ويالا بقى مع السلامة هتوحشنى عندى شغل لازم اخلصوا.
النبوى: سلام يا أستاذ
شاهين: ما تنساش بكره عندك ساعتين خيل فى نادى الفروسية اتمرن كويس أحسن والله العظيم لو ما طلعتش بتركب خيل كويس فى الفيلم لا أوديك فى ستين داهية.
النبوى: حاضر يا أستاذ


عن جريدة الشروق - عدد الاثنين ٢٧ يوليو ٢٠٠٩

Saturday, July 25, 2009

Alex Agenda generous intervention.



Thanks to Ahmed Esmat, the project manager of Alex Agenda, a note about my screenings that took place in Goethe Institut has been published in the July, 2009 issue.

Thursday, May 28, 2009

D. J.

شاهدت مؤخرًا فيلم عبد الله شركس الروائي الأول، وهو الفيلم الذي عملت فيه كمساعد للإخراج وأتذكره دائمًا بشئ من الغبطة شأنه في ذلك شأن كل الأفلام التي عملت فيها في الإطار "المستقل" هذا. فلقد كنت قد قرأت السيناريو ي إطار عملية التحضير للفيلم مع عبد الله كما أنني سعدت كثيرًا بوجود محمد رشاد خلف الكاميرا في هذا الفيلم، لقد كان أكثرنا خبرة في العمل وكان وجوده يشيع شيئًا من الإطمئنان في المكان، فهو دائمًا جاهز لحل أي مشكلة بعملية شديدة

لا أنكر أن العالم الذي تدور فيه القصص التي يهتم بها عبدالله لهو عالم غريب عني بعض الشئ، فأنا لم أهتم بالشعر مطلقًا في حياتي سوى في فترة متأخرة جدًا على يد علاء خالد، ولازلت حتى الآن ينفرني من الشعر ما يجذب الكثيرين له من قافية محبوكة وما إلا ذلك، أعلم أن هذه نظرة سطحية إلى حد ما في التعامل مع "مملكة الشعر" وأنا دائمًا أعتذر لجهلي، وإعتقد أنني سوف أظل على هذا الحال لفترة كبيرة. إذن فمحنة شاعر شاب وهو في إنتظار الوحي لا تشكل موضوعًا جذاب بالنسبة لي، كما أنني لست مهتمًا بعوالم المخدرات وكيفية "أن تقضي" وما إلى ذلك. ربما تشكل فكرة الخروج من "شلة" والولوج في أخرى موضوعًا مميزًا لدى معظم الشباب، لكنها لم تلفت نظري بشكل كبير أثناء قراءتي الأولى للسيناريو بل ربما ظهرت جلية أثناء التصوير. لكن أكثر ما شدني إلى السيناريو هو تركيبه الذي يتمحور حول بطله وجرأته - جرأة السيناريو - في الإقدام على تكرار مشهد معين بنفس الطريقة مرتين، خاصة وأنه مشهد بسيط لا يميزه سوى تفصيلة شديد البساطة (وهي أن يقوم البطل بالضغط على زر نور السلم كلما ساد الظلام). أعتقد أن تلك التفصيلة كانت أكثر ما جذبني للفيلم كما أنني أعتقد أن هذه التفصيلة، على بساطتها، أصبحت ذات قوة كبيرة في النسخة النهائية من الفيلم

إختلفت النسخة النهائية من الفيلم عن السيناريو الأول كثيرًا، وأعتقد أن السبب يكمن في أن عبدالله كان يتأرجح بتفكيره طوال الوقت بين "الذاتي" و"العام" وأنه قد قرر أن يرجح "العام" في النسخة الأولى، ولكنه من الواضح أنه لم يكن راضيًا بشكل كاف حتى هذه اللحظة عن نتاج عمله، وربما أنه "تجرأ" بعد أن شهد إغراق كبير في الذاتية لدى أقرانه (مارك لطفي وبلال حسني). أعني بالذاتية هنا الموضوعات المتصلة بشكل مباشر بإهتمامات المؤاف، بصرف النظر عن مدى شعبيتها لدى الجمهور. أعتقد أن هذا ساعد عبدالله أن يتحرر من تحفظه وأن يضع "نفسه" في فيلمه. فإذا به يقف وراء الميكسر ويوجهنا عن طريق إختيار نوعية الموسيقى. كان لهذا أثر إيجابي في نفسي، ربما لأنه أفاد "القصدية" الشديدة في إستخدام هذا النوع بالذات من الموسيقى في تلك اللحذظة، فهي ليست موسيقى لطيفة ومناسبة، بل هي فقط التي يمكن إستخدامها بالنسبة لعبدالله في تلك اللحظة

يحسب لعبدالله قدرته على التحكم في هذا الكم الكبير - نسبيًا - من الممثلين، ويحسب له إسناد دور رئيسي لممثل غير محترف (مصطفى البنهاوي)، ولقد جاء إختيار البنهاوي بنقطة إيجابية كبيرة وهي وجود هذا النمط التلقائي من التمثيل الذي تفتقر إليه معظم الأفلام التي تعتمد في إختيار الممثلين على الخلفية المسرحية لهم، فلقد جاء تمثيل البنهاوي "خارج العلبة" تمامًا وربما كان هذا نفسه ضد الفيلم فهو الوحيد الذي يمثل بهذه الطريقة المبسطة غير عابئ بوجود كاميرا أو إضاءة، ولكن ربما كان هذا مريحًا بالنسبة للمخرج حيث تجئ هذه الشخصية فجأة لتغير إتجاه البطل، ثم تختفي، وأعتقد أن هذا التخمين أقرب إلى الصحة، حيث تميز بشدة مكان تصوير مشهد ظهور تلك الشخصية عن باقي الأماكن وظهر فيه إعتناء يصل إلى حد التنميق في "الكادراج" ثم المونتاج لاحقًا

بقى أن أذكر أن ما دفعني للكتابة هو عجبي من إنجذابي الشديد أثناء مشاهدتي الأخيرة للفيلم، فكما ذكرت من قبل، الموضوع الأساسي ليس ذو أهمية كبيرة بالنسبة لي، ومع ذلك إستطاع الفيلم أن يمسك بي حتى التيتر


Saturday, April 18, 2009

Alex Cinema Page


AlexCinema is a project that was held by one of the departments at the Bibliotheca Alexandrina that aimed to "Explore the history of the birth of the seventh art in Alexandria, and the attempt to revive the art of film making in the city of its birth".

Here you can read - and watch - more about the very first group of filmmakers who studied at the Jesuit Cultural Center Workshop.


Monday, March 9, 2009

نسير فقط لنغيّر المشهد

مقدمة المدونة بقلم علاء خالد*..


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فى الثمانينيات والتسعينيات كان ليل الإسكندرية فقيرا ومظلما. تجلس مع أصدقائك على المقاهى، تتململ من طول الجلسة، لاتعرف مكانا آخر تذهب إليه، فالمراكز الثقافية الأجنبية وقصور الثقافة، على قلتها، لها برامج تقليدية، ونادرأ ماستجد فيها مايجذبك. كنا ابناء جيل يبحث عن مكان، ووسيلة ليطفو على سطح الحياة. ربما كانت جماعات المسرح، ومسرح الغرفة، وعروض المسرح التجريبى التى تأتى للإسكندرية من عام لعام، هى التى ضخت بعض النشاط والحيوية فى تلك الفترة. حفظت هذه الجماعات والعروض لحياة وسط البلد تاريخها وإرثها الثقافيين.

على فترات متباعدة سترى عرضا للباليه الكلاسيكى، أو للرقص الحديث على مسرح سيد درويش، الذى ستُغلق أبوابه بعد ذلك لسنوات طويلة. أو خلال مهرجان الإسكندرية السينمائى سترابض لمدة أسبوع على المقاهى المحيطة بدور العرض تذاكر برامج الأفلام المعلقة على البوابات، أو تنحشر داخل هذه الصالات المظلمة مع جمهور كان يتنشق على مشاهد لم تمر من تحت يد الرقيب. فتليفزيون الدولة، وباقى أفلام دور السينما، والحس الاخلاقى المتسرب من الستينيات، كانوا جميعا يساهمون فى ضبط وتهذيب الصورة والفكرة التى ستعبر لعين المتفرج الأعزل. خلال هذا الأسبوع كانت تنتعش حياة ومقاهى وسط البلد، تشعر فى الجو بحالة نشوة جماعية. أحيانا كانت المراكز الثقافية الأجنبية، والتى لاتحمل من ماضيها الثقافى الفاعل داخل المدينة سوى جمال مبانيها، وأناقة موظفيها، تشعر أن هذه المراكز أيضا قد نسيت من حكوماتها؛ هذه المراكزكانت تقيم أسابيع أفلام لمخرجيها، لاتتاح إلا للذين يحملون بطاقة عضوية لهذه المراكز، ولكنها أيضا كانت منفذا استئنائيا لمشاهدة أفلام ستظل تشغل أحاديث الأصدقاء لأسابيع وربما لسنوات قادمة.

خارج هذه المراكز كان من النادر أن ترى أجنبيا، رجلا أو امراة، جالسا على أحد مقاهى وسط البلد.

نادى السينما فى أتلييه الإسكندرية كان له دور فى بث بعض الحيوية فى هذا الليل، واستضافته لمخرجى وممثلى القاهرة لمناقشة أفلامهم. لأول مرة أشاهد هؤلاء النجوم عن قرب، وأشعر بأن الإسكندرية جزء من مكان آخر يمتلىء بالنجوم. حتى منتصف الثمانينيات كان أبواب الأتلييه مغلقة أمام قبول أعضاء جدد.

برغم كل هذا كانت تلك النشاطات عبارة عن جزر منعزلة، غير قادرة على جذب أو تشكيل ملامح جيل جديد ينتظر على المقاهى وفى البيوت.

المقاهى والأصدقاء كانا المركزين الأكثر ثراء فى تلك الفترة من تاريخ الإسكندرية الثقافى. كنا ابناء جيل يود ولو يكمل حياته بنفس المدينة التى نشأ فيها. الأجيال السابقة، من الفنانين والكتاب، التى تحققت ذهبت للقاهرة، والبعض الآخر ممن ظل بالمدينة، أخذتهم الوظيفة بعيدا عن الفن والأدب. أو أخذهم صمت المدينة وليلها الفقير لبناء عزلات شخصية زاهدة.

كنا نحاول أن نهرب من هذا المصير.

كنا نتنقل فى ليلنا هذا بين مقهى الحاج صالح، ومقهى وبار الوطنية الكبرى، ومقهى الكريستال، ومقهى البوابين، ومقاهى حى الأنفوشى، ومقهى عبد الكريم بجوار محطة قطار سيدى جابر، كأننا على سفر. خلال هذه المقاهى تكونت حياة ثقافية بديلة، مليئة بالمناقشات والاحتدامات الحية.

السير فى الشوارع كان يشكل ثقافة بديلة بحد ذاته. الفرجة على الحياة ومحاولة الاقتراب منها بهدوء. فقد كانت هذه الحياة غائبة فى الكتب التى نقرأها، ونود ولو تعود. كنا نوثق لهذه الحياة بالصور الأبيض والأسود، أو بالصور الملونة. نصور، ونصور، لقطات إثر لقطات، ثم البحث عن معامل تحميض وطبع جيدة، والتلهف لرؤية النتيجة بينما عامل المعمل يجهز فاتورة الحساب. هذا السير العشوائى وهذه المشاهد، واللقطات، والصور صنعت ذاكرة بصرية للحياة التى عشناها فى تلك الفترة، فترة التيه والبحث عن منفذ وطريقة وفكرة.

كان من المهم تغيير المشهد، نسير فقط لنغير المشهد.

أى جيل جديد كما يحتاج لمكان، يحتاج أيضا لوسيط تتبدى فيه أفكاره. بالنسبة لنا كان الشعر هو هذا الوسيط، بما يختزنه فى تاريخه من حس تمردى ورغبة فى التغيير، وأفكار تتناسب مع طموحات هذا الجيل الجديد. كان مايشغلنا فى الشعر تلك الأفكار والرؤى التى تخص " الفرد" وقلقه، وطرق تحققه، وعلاقته بالمجتمع المحيط. حتى الصورة الخيالية داخل الشعر، والتى كانت لها الصدارة فى كتابات الأجيال السابقة أخذت تزوى وتذبل عناصر خيالها، وحل محها "المشهد" أو "الحدث"، أو " الحكاية". فالكتابة اكتسبت تلك الحالة السردية، لأنها تُنتج وأنت سائر فى الخارج وسط سياقات من الناس، أنت فى النهاية جزء منهم. أصبحت الكتابة لها هذه الذاكرة البصرية. وأخذت هذا المنحى التوثيقى للحياة، مع رد الاعتبار للقلق الوجودى للفرد، الفرد غير المسيس، الذى بداخله إحساس أخلاقى ما، أخلاق جديدة. بمعنى آخر كانت هناك عودة للواقع وللحياة الشخصية أو السيرة الذاتية كمصدرين ملهمين للكتابة.

فى تلك الفترة كان من النادر أن تصادف معرضا للصور الفوتوغرافية، عدا جماعات التصوير الضوئى بأتلييه الإسكندرية، والتى أصبحت السمة الغالبة للمعارض الآن. لذا فقد كانت وقائع الحياة اليومية فى الإسكندرية غائبة داخل أى وسيط، سوى فى بعض الكتابات، أو فى أفلام السينما القديمة أوالحديثة. معارض الفن التشكيلى، وجماعات الفن التشكيلى، كانت أيضاً أحد مظاهر النشاط والحيوية فى تلك الفترة، ولكنه فن لن يسعفه الوقت أو التقنية ليواكب ويعبر عن التحول الذى يحدث حوله، لأن داخل هذا الفن نفسه أفكارا أخرى تشغله. ربما كان يوثق لحياة الأفكار، بعد أن يصفى الواقع من تفاصيله، ليراه عبر مراحل معقدة ومجردة وشديدة التركيب.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


فى الأفلام السينمائية كان للإسكندرية حضور مقيد. فى فيلم "ميرامار" لكمال الشيخ و"السمان والخريف"، واللذين تدور أحداثهما فى إسكندرية الستينيات، التى لم تجد سوى منطقة وسط البلد ومبانيها ذات الطراز الإيطالى وشوارعها لترى من خلالها هذه الحقبة. أفلام البحر والمصيف والاستجمام وشهر العسل، كانت تبحث عن أيقونات أخرى مثل فندق اللبوريفاج، أو فندق سان استيفانو القديم، واللذين ذاع صيتهما وأصبحا من رموز الإسكندرية حتى بعد أن تم هدمهما. ربما فيلم " الصعاليك" لداود عبد السيد بدأ فى نقل صورة اخرى للإسكندرية، اسكندرية الميناء والحوارى، والانفتاح، وعلاقات الطبقات الهامشية بكل مايحدث من حولهم من تغيير وتحول.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


كان افتتاح مركز الجيزويت الثقافى" الجراج" فى بداية الألفية الجديدة تحت إشراف الراحل فايز سعد، ثم تنظيم عدة ورش لدراسة فن السينما، من أهم العلامات الفارقة فى تاريخ الإسكندرية الثقافى الحديث، وبداية لظهور جيل جديد، وعبر وسيط جديد وهو كاميرا الفيديو الرقمية. بالتأكيد تعتبر السينما من أهم الفنون التى تخلق حولها مناخاتً وتجمعات وحوارات وحرفاً ترتبط بها. لم يكن يحدث هذا لولا دخولنا عصر الديجيتال، الذى جعل حلم صناعة فيلم، والذى حلمنا به جميعاً، شيئاً قابلاً للتحقق. تلك الكاميرا الصغيرة التى تجول بها فى الشوارع تبحث عن حكايات لتسجلها، وعن لقطات عادية، أو استثنائية، لتعود فى النهاية وتفرغ كل ما تم التقاطه، عمداً أو صدفة؛ فى جهاز الكمبيوتر الخاص بك، ثم يتم عمل المونتاج لهذه اللقطات. بالتأكيد هناك حكاية متسقة ستظهر وسط ماتم التقاطه، حكاية شخص، أو وجه، أو نافذة، أو حشود، أو نفس. يمكن لأى هاو الآن أن يحمل كاميرته الديجيتال ويسير وسط الناس بدون ان يلفت اليه الأنظار. هذا الخفاء الممنوح لهذا الشخص، والذى منحه له عصر الديجيتال، سيجعله يتلصص على لحظات حية من الصعب أن توثقها الكاميرا العادية للسينما، التى تحتاج لتثبيت المشهد، ولإعداده المسبق، فالزمن سابق، أما من يتحرك بالكاميرا الرقمية، فالزمن مازال فى المستقبل، لأن المشهد لم يحدث بعد أو هو فى طريقه للحدوث. هناك صدفة تنتظر وسط الزحام. بين التقنية الرقمية والحياة علاقة تساو وتزامن وصداقة.

كان من المهم تغيير المشهد، نسير فقط لنغير المشهد.

أهم مايميز تجمعات السينما فى الإسكندرية، وهذه الأفلام قليلة التكاليف، أنها تخلق صورة جديدة للإسكندرية وللحياة فيها، ليس فى الإسكندرية وحدها، بل فى مصر كلها. فالجميع سيشارك فى كتابة هذا النص الكبير. ربما الصورة وحدهاغير كافية، ويلزمها إطار من الدقة والأفكار والسياقات المساعدة، لتعيش داخله الصورة. ولكنى أرى أن هذا التراكم ربما سيغير فى المستقبل من أى صورة نمطية، لأنه سيضمنها الكثير من التفاصيل والمشاهدات، والعشوائية. فى هذه الأفلام هناك حكايات وصور توثق لحياتنا وعاديتنا، فى المستقبل ستصبح جزءاً من هذا النص الكبير للذاكرة الجماعية.


علاء خالد


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*علاء خالد

- كاتب مصري
- مواليد الإسكندرية عام ١٩٦٠
- درس الكيمياء الحيوية في كلية العلوم بجامعة الإسكندرية

- بدأ طريقه الأدبي في الثمانينات
- أسس
مجلة "أمكنة" وأصدر العدد الأول منها عام ١٩٩٩

صدر له؛
- الجسد عالق بمشيئة حبر - شعر - ١٩٩٠
- وتهب طقس الجسد إلى الرمز - شعر - ١٩٩٢
- حياة مبيتة - شعر - ١٩٩٥
- خطوط الضعف - نثر - ١٩٩٥
- المسافر - نثر - ٢٠٠٢
- طرف غائب - نثر - ٢٠٠٣
- كرسيان متقابلان - شعر - ٢٠٠٦
- تصبحين على خير - شعر - ٢٠٠٧