Monday, March 9, 2009

نسير فقط لنغيّر المشهد

مقدمة المدونة بقلم علاء خالد*..


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فى الثمانينيات والتسعينيات كان ليل الإسكندرية فقيرا ومظلما. تجلس مع أصدقائك على المقاهى، تتململ من طول الجلسة، لاتعرف مكانا آخر تذهب إليه، فالمراكز الثقافية الأجنبية وقصور الثقافة، على قلتها، لها برامج تقليدية، ونادرأ ماستجد فيها مايجذبك. كنا ابناء جيل يبحث عن مكان، ووسيلة ليطفو على سطح الحياة. ربما كانت جماعات المسرح، ومسرح الغرفة، وعروض المسرح التجريبى التى تأتى للإسكندرية من عام لعام، هى التى ضخت بعض النشاط والحيوية فى تلك الفترة. حفظت هذه الجماعات والعروض لحياة وسط البلد تاريخها وإرثها الثقافيين.

على فترات متباعدة سترى عرضا للباليه الكلاسيكى، أو للرقص الحديث على مسرح سيد درويش، الذى ستُغلق أبوابه بعد ذلك لسنوات طويلة. أو خلال مهرجان الإسكندرية السينمائى سترابض لمدة أسبوع على المقاهى المحيطة بدور العرض تذاكر برامج الأفلام المعلقة على البوابات، أو تنحشر داخل هذه الصالات المظلمة مع جمهور كان يتنشق على مشاهد لم تمر من تحت يد الرقيب. فتليفزيون الدولة، وباقى أفلام دور السينما، والحس الاخلاقى المتسرب من الستينيات، كانوا جميعا يساهمون فى ضبط وتهذيب الصورة والفكرة التى ستعبر لعين المتفرج الأعزل. خلال هذا الأسبوع كانت تنتعش حياة ومقاهى وسط البلد، تشعر فى الجو بحالة نشوة جماعية. أحيانا كانت المراكز الثقافية الأجنبية، والتى لاتحمل من ماضيها الثقافى الفاعل داخل المدينة سوى جمال مبانيها، وأناقة موظفيها، تشعر أن هذه المراكز أيضا قد نسيت من حكوماتها؛ هذه المراكزكانت تقيم أسابيع أفلام لمخرجيها، لاتتاح إلا للذين يحملون بطاقة عضوية لهذه المراكز، ولكنها أيضا كانت منفذا استئنائيا لمشاهدة أفلام ستظل تشغل أحاديث الأصدقاء لأسابيع وربما لسنوات قادمة.

خارج هذه المراكز كان من النادر أن ترى أجنبيا، رجلا أو امراة، جالسا على أحد مقاهى وسط البلد.

نادى السينما فى أتلييه الإسكندرية كان له دور فى بث بعض الحيوية فى هذا الليل، واستضافته لمخرجى وممثلى القاهرة لمناقشة أفلامهم. لأول مرة أشاهد هؤلاء النجوم عن قرب، وأشعر بأن الإسكندرية جزء من مكان آخر يمتلىء بالنجوم. حتى منتصف الثمانينيات كان أبواب الأتلييه مغلقة أمام قبول أعضاء جدد.

برغم كل هذا كانت تلك النشاطات عبارة عن جزر منعزلة، غير قادرة على جذب أو تشكيل ملامح جيل جديد ينتظر على المقاهى وفى البيوت.

المقاهى والأصدقاء كانا المركزين الأكثر ثراء فى تلك الفترة من تاريخ الإسكندرية الثقافى. كنا ابناء جيل يود ولو يكمل حياته بنفس المدينة التى نشأ فيها. الأجيال السابقة، من الفنانين والكتاب، التى تحققت ذهبت للقاهرة، والبعض الآخر ممن ظل بالمدينة، أخذتهم الوظيفة بعيدا عن الفن والأدب. أو أخذهم صمت المدينة وليلها الفقير لبناء عزلات شخصية زاهدة.

كنا نحاول أن نهرب من هذا المصير.

كنا نتنقل فى ليلنا هذا بين مقهى الحاج صالح، ومقهى وبار الوطنية الكبرى، ومقهى الكريستال، ومقهى البوابين، ومقاهى حى الأنفوشى، ومقهى عبد الكريم بجوار محطة قطار سيدى جابر، كأننا على سفر. خلال هذه المقاهى تكونت حياة ثقافية بديلة، مليئة بالمناقشات والاحتدامات الحية.

السير فى الشوارع كان يشكل ثقافة بديلة بحد ذاته. الفرجة على الحياة ومحاولة الاقتراب منها بهدوء. فقد كانت هذه الحياة غائبة فى الكتب التى نقرأها، ونود ولو تعود. كنا نوثق لهذه الحياة بالصور الأبيض والأسود، أو بالصور الملونة. نصور، ونصور، لقطات إثر لقطات، ثم البحث عن معامل تحميض وطبع جيدة، والتلهف لرؤية النتيجة بينما عامل المعمل يجهز فاتورة الحساب. هذا السير العشوائى وهذه المشاهد، واللقطات، والصور صنعت ذاكرة بصرية للحياة التى عشناها فى تلك الفترة، فترة التيه والبحث عن منفذ وطريقة وفكرة.

كان من المهم تغيير المشهد، نسير فقط لنغير المشهد.

أى جيل جديد كما يحتاج لمكان، يحتاج أيضا لوسيط تتبدى فيه أفكاره. بالنسبة لنا كان الشعر هو هذا الوسيط، بما يختزنه فى تاريخه من حس تمردى ورغبة فى التغيير، وأفكار تتناسب مع طموحات هذا الجيل الجديد. كان مايشغلنا فى الشعر تلك الأفكار والرؤى التى تخص " الفرد" وقلقه، وطرق تحققه، وعلاقته بالمجتمع المحيط. حتى الصورة الخيالية داخل الشعر، والتى كانت لها الصدارة فى كتابات الأجيال السابقة أخذت تزوى وتذبل عناصر خيالها، وحل محها "المشهد" أو "الحدث"، أو " الحكاية". فالكتابة اكتسبت تلك الحالة السردية، لأنها تُنتج وأنت سائر فى الخارج وسط سياقات من الناس، أنت فى النهاية جزء منهم. أصبحت الكتابة لها هذه الذاكرة البصرية. وأخذت هذا المنحى التوثيقى للحياة، مع رد الاعتبار للقلق الوجودى للفرد، الفرد غير المسيس، الذى بداخله إحساس أخلاقى ما، أخلاق جديدة. بمعنى آخر كانت هناك عودة للواقع وللحياة الشخصية أو السيرة الذاتية كمصدرين ملهمين للكتابة.

فى تلك الفترة كان من النادر أن تصادف معرضا للصور الفوتوغرافية، عدا جماعات التصوير الضوئى بأتلييه الإسكندرية، والتى أصبحت السمة الغالبة للمعارض الآن. لذا فقد كانت وقائع الحياة اليومية فى الإسكندرية غائبة داخل أى وسيط، سوى فى بعض الكتابات، أو فى أفلام السينما القديمة أوالحديثة. معارض الفن التشكيلى، وجماعات الفن التشكيلى، كانت أيضاً أحد مظاهر النشاط والحيوية فى تلك الفترة، ولكنه فن لن يسعفه الوقت أو التقنية ليواكب ويعبر عن التحول الذى يحدث حوله، لأن داخل هذا الفن نفسه أفكارا أخرى تشغله. ربما كان يوثق لحياة الأفكار، بعد أن يصفى الواقع من تفاصيله، ليراه عبر مراحل معقدة ومجردة وشديدة التركيب.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


فى الأفلام السينمائية كان للإسكندرية حضور مقيد. فى فيلم "ميرامار" لكمال الشيخ و"السمان والخريف"، واللذين تدور أحداثهما فى إسكندرية الستينيات، التى لم تجد سوى منطقة وسط البلد ومبانيها ذات الطراز الإيطالى وشوارعها لترى من خلالها هذه الحقبة. أفلام البحر والمصيف والاستجمام وشهر العسل، كانت تبحث عن أيقونات أخرى مثل فندق اللبوريفاج، أو فندق سان استيفانو القديم، واللذين ذاع صيتهما وأصبحا من رموز الإسكندرية حتى بعد أن تم هدمهما. ربما فيلم " الصعاليك" لداود عبد السيد بدأ فى نقل صورة اخرى للإسكندرية، اسكندرية الميناء والحوارى، والانفتاح، وعلاقات الطبقات الهامشية بكل مايحدث من حولهم من تغيير وتحول.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


كان افتتاح مركز الجيزويت الثقافى" الجراج" فى بداية الألفية الجديدة تحت إشراف الراحل فايز سعد، ثم تنظيم عدة ورش لدراسة فن السينما، من أهم العلامات الفارقة فى تاريخ الإسكندرية الثقافى الحديث، وبداية لظهور جيل جديد، وعبر وسيط جديد وهو كاميرا الفيديو الرقمية. بالتأكيد تعتبر السينما من أهم الفنون التى تخلق حولها مناخاتً وتجمعات وحوارات وحرفاً ترتبط بها. لم يكن يحدث هذا لولا دخولنا عصر الديجيتال، الذى جعل حلم صناعة فيلم، والذى حلمنا به جميعاً، شيئاً قابلاً للتحقق. تلك الكاميرا الصغيرة التى تجول بها فى الشوارع تبحث عن حكايات لتسجلها، وعن لقطات عادية، أو استثنائية، لتعود فى النهاية وتفرغ كل ما تم التقاطه، عمداً أو صدفة؛ فى جهاز الكمبيوتر الخاص بك، ثم يتم عمل المونتاج لهذه اللقطات. بالتأكيد هناك حكاية متسقة ستظهر وسط ماتم التقاطه، حكاية شخص، أو وجه، أو نافذة، أو حشود، أو نفس. يمكن لأى هاو الآن أن يحمل كاميرته الديجيتال ويسير وسط الناس بدون ان يلفت اليه الأنظار. هذا الخفاء الممنوح لهذا الشخص، والذى منحه له عصر الديجيتال، سيجعله يتلصص على لحظات حية من الصعب أن توثقها الكاميرا العادية للسينما، التى تحتاج لتثبيت المشهد، ولإعداده المسبق، فالزمن سابق، أما من يتحرك بالكاميرا الرقمية، فالزمن مازال فى المستقبل، لأن المشهد لم يحدث بعد أو هو فى طريقه للحدوث. هناك صدفة تنتظر وسط الزحام. بين التقنية الرقمية والحياة علاقة تساو وتزامن وصداقة.

كان من المهم تغيير المشهد، نسير فقط لنغير المشهد.

أهم مايميز تجمعات السينما فى الإسكندرية، وهذه الأفلام قليلة التكاليف، أنها تخلق صورة جديدة للإسكندرية وللحياة فيها، ليس فى الإسكندرية وحدها، بل فى مصر كلها. فالجميع سيشارك فى كتابة هذا النص الكبير. ربما الصورة وحدهاغير كافية، ويلزمها إطار من الدقة والأفكار والسياقات المساعدة، لتعيش داخله الصورة. ولكنى أرى أن هذا التراكم ربما سيغير فى المستقبل من أى صورة نمطية، لأنه سيضمنها الكثير من التفاصيل والمشاهدات، والعشوائية. فى هذه الأفلام هناك حكايات وصور توثق لحياتنا وعاديتنا، فى المستقبل ستصبح جزءاً من هذا النص الكبير للذاكرة الجماعية.


علاء خالد


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*علاء خالد

- كاتب مصري
- مواليد الإسكندرية عام ١٩٦٠
- درس الكيمياء الحيوية في كلية العلوم بجامعة الإسكندرية

- بدأ طريقه الأدبي في الثمانينات
- أسس
مجلة "أمكنة" وأصدر العدد الأول منها عام ١٩٩٩

صدر له؛
- الجسد عالق بمشيئة حبر - شعر - ١٩٩٠
- وتهب طقس الجسد إلى الرمز - شعر - ١٩٩٢
- حياة مبيتة - شعر - ١٩٩٥
- خطوط الضعف - نثر - ١٩٩٥
- المسافر - نثر - ٢٠٠٢
- طرف غائب - نثر - ٢٠٠٣
- كرسيان متقابلان - شعر - ٢٠٠٦
- تصبحين على خير - شعر - ٢٠٠٧